ترجمة لمقال بعنوان A Project of One’s Own للكاتب والمبرمج والمستثمر Paul Graham.
قبل أيام قليلة وفي طريقنا للمنزل، أخبرني طفلي ذو التسعة أعوام عن تطلعه وحماسه للوصول للمنزل من أجل أن يكمل كتابة القصة التي يعمل عليها. هذا الأمر جعلني سعيدا جدا ليس فقط لأنه يشتعل حماسا لقصته، ولكن لأنه اكتشف هذا النوع من العمل. العمل على مشروعك الخاص والذي يختلف عن العمل العادي المعتاد كما يختلف التزلج عن المشي. العمل على مشروعك الخاص ليس ممتعا وحسب، بل وأكثر إنتاجية.
كم تشكل الأعمال العظيمة التي كانت نتيجة للمشاريع الخاصة؟ إن لم يكن كلها، فبالتأكيد الكثير منها.
هناك شيء ما مميز يحيط العمل على مشروعك الخاص، لن أقول انك ستصبح أسعد ولكنك بالتأكيد ستكون متحمسا أو منغمسا. ستكون سعيدا عندما يكون المشروع على مايرام، ولكن غالبا لن تكون الأمور كما تتوقع. عندما أكتب مقالا غالبا ما أكون قلقا ومحتارا، قلق من أن تكون المقالة سيئة ومحتارا لكوني أحاول الإمساك بخيوط فكرة لا أستطيع رؤيتها بوضوح. هل سيمكنني الإمساك بها ووصفها بالكلمات؟ غالبا سيمكنني إن أمضيت الوقت الكافي، ولكني سأكون طوال وقت العمل غير متأكد، وعادة سأفشل عدة مرات.
ستعيش لحظات من السعادة عندما تكون الأمور على مايرام ولكنها لن تدوم طويلا، لأنك ستنتقل للعمل على المشكلة التالية. إذا لماذا تفعل كل هذا؟ لأن لاشيء يعدل هذا الإحساس عند أولئك الأشخاص الذي يحبون العمل على مشاريعهم الخاصة. ستشعر كما لوأنك حيوان بري في بيئته، تعمل على ماتؤمن أنك وجدت لتفعله. ربما لن تكون سعيدا باستمرار ولكنك ستكون واعيا وتنبض بالحياة.
يجرب العديد من الأطفال حماس العمل على مشاريعهم الخاصة، ولكن الجزء الأصعب هو أن يتحول هذا العمل لمهنة عندما يكبرون. عاداتنا تزيد من صعوبة الأمر، لأننا نتعامل مع “اللعب” و”الهوايات” بشكل مختلف نوعيا عن “العمل”. بالنسبة لطفل يبني بيتا على شجرة فليس هناك أي وضوح بأن هذا العمل سيقود (ولو على المدى البعيد) نحو الهندسة أو المعمار، وبدلا من أن نقود الطفل نحو هذا المسار، نقتله بقولنا بأن مايعمل عليه مختلف عن العمل الحقيقي.
بدلا من أن نخبر الأطفال بأن بيت الشجرة الذي يبنون قد يكون طريقهم نحو مهنة ما عندما يكبرون، نخبرهم بأن الطريق سيكون عبر المدرسة، وللأسف فواجبات المدرسة تميل لأن تكون مختلفة تماما عن العمل على المشروع الخاص، فهي غالبا ليست مشروعا وليست خاصة بالشخص. لذلك عندما تشتد جدية الدراسة يصبح العمل على المشاريع الخاصة مهمشا وبالكاد تنجو.
انه لأمر محزن عندما تفكر في كل أولئك الطلاب الذي تركوا بناء بيوت الأشجار لأجل أن يذهبوا لفصول الدراسة ليتعلموا أعمال داروين ونيوتن حتى يجتازوا بعض الامتحانات، بينما العمل الذي جعل من داروين ونيوتن مشاهيرا هو أقرب روحيا لبناء بيوت الأشجار منه للدراسة لأجل الامتحانات.
لو اضطررت لأن أختار لأطفالي بين أن يحصلوا على درجات جيدة أو أن يعلموا على مشاريع طموحة فسأختار المشاريع. ليس لأني أب متساهل، بل لأني عشت التجربة وأعرف أيهما سيكون أنفع، فعندما كنت أختار الشركات الناشئة للانضمام لمسرعة Y Combinator لم أهتم أبدا لدرجات المتقدمين لكن مشاريعهم الخاصة كانت مثيرة لاهتمامي.
لامفر من المدرسة، ولاأقول هنا بأننا يجب أن نعيد تصميم أساليب التدريس (ولا أقول أيضا بأن نتركها كما هي). ما أقوله هو أننا يجب أن نفهم تأثيرها على سلوكنا نحو العمل وكيف أنها تقودنا نحو العمل بتثاقل مدفوعين بالشعور بالمسؤولية أحيانا أو المنافسة في أحيان أخرى.
بالطبع هناك أوقات يكون فيها العمل المدرسي مشروعا خاصا، مثلا مقالاتي وأبحاثي المدرسية كانت تتحول لمشاريع خاصة (باستثناء أبحاث دروس اللغة الإنجليزية لأنه وياللسخرية دائما ماتكون عن مواضيع سخيفة). عندما انضممت للجامعة وبدأت بدراسة علوم الحاسب بدأت تتحول البرمجيات التي أعمل عليها إلى مشاريع خاصة. منذ ذلك الوقت وحتى الآن أصبحت الكتابة والبرمجة مشاريعي الخاصة.
اذا أين تقع حدود المشاريع الخاصة؟ هذا سؤال مثير للاهتمام أولا لأنه معقد وثانيا لأنه يضع الكثير من الأمور على المحك. يبدو أن هناك قيمتين تجعل من المشروع الذي تعمل عليه مشروعك الخاص. الأولى أن تعمل عليه متطوعا وليس لأنك أمرت به، والثانية أن تعمل عليه بنفسك.
حد القيمة الأولى (التطوع) حاد نوعا ما، فمن يهتم بعمله كثيرا يكون غالبا حساسا تجاه الفرق بين طلب العمل والتهرب منه، والعمل غالبا يقع بين هذين الاثنين. لكن الاختبار الحقيقي هنا ليس كونك أمرت بالعمل أو لا، لأنه يمكن أن تؤمر بعمل ما وتختاره في نفس الوقت، وبالطبع يمكن أيضا أن تمتلك مسؤولية هذا العمل أكثر حتى ممن أمرك به.
على سبيل المثال، واجبات الرياضيات بالنسبة لكثير من الناس هي شيء يؤمرون بفعله، ولكنها ليست كذلك بالنسبة لأبي عالم الرياضيات. كثير منا يعتقد بأن المسائل في أي كتاب رياضيات هي طريقة لامتحاننا أو تنمية معرفتنا بمحتوى الكتاب. بالنسبة لأبي فالمسائل كانت هي المحتوى الأساسي للكتاب أما بقية النصوص فلم تكن سوى هوامش. بالنسبة له فإنه في كل مرة يقع بين يديه كتاب رياضيات جديد يبدو وكأنه وجد لغزا وينطلق مباشرة لحل كل المسائل.
بالنسبة للقيمة الثانية التي تجعل من المشروع خاصا بك (أن تعمل عليه بنفسك) فحدها أقل حدة، ويمكن أن تتدرج نحو العمل التعاوني. وبشكل مثير للاهتمام فهذا التدرج نحو التعاون يكون بشكلين. الشكل الأول يكون التعاون فيه يعني أن تتشارك مشروعا واحدا، فعلى سبيل المثال أن يعمل عالما رياضيات بشكل مشترك على برهان ما ويكون عملهم على شكل نقاش بينهما. أما الشكل الثاني من أشكال التعاون فهو عندما يعمل مجموعة من الأشخاص على مشاريعهم الخاصة باستقلالية لكن هذه المشاريع تتكامل في النهاية، فمثلا يمكن أن يعمل شخص ما على كتابة نصوص كتاب فيما يعمل شخص آخر على رسوماته.
بالطبع هذان النوعان من أشكال التعاون يمكن أن يندمجا ولكن تحت الظروف المناسبة. حيث يمكن الاحتفاظ بحماسة العمل على المشاريع الخاصة لوقت طويل قبل أن تتفكك لتشكل طوفان العمل في أي منظمة ضخمة. في الواقع تاريخ أي منظمة ناجحة هو جزئيا تاريخ قدرتها على الحفاظ على هذه الحماسة.
من أفضل الأمثلة على ظاهرة التعاون على المشاريع الخاصة هو الفريق الذي عمل على صناعة أول حاسوب Macintosh. أشخاص مثل Burrell Smith و Andy Hertzfeld و Bill Atkinson و Susan Kare لم يكونوا مجرد موظفين يتبعون أوامر Steve Jobs، بل كانوا جميعا متحمسين للعمل على مشروعهم الخاص.
في كتاب Andy Hertzfeld عن Macintosh وصف كيف كان الفريق يعود للمكتب مساء بعد تناولهم للعشاء ويستمرون في العمل حتى منتصف الليل. من لم يجرب إثارة العمل على مشروعه الخاص لن يفرق بين هذا النوع من العمل لساعات طويلة وبين العمل في مصنع يستغل العمال، ولكنهما نوعين من العمل متضادان. لذلك من الخطأ الإصرار بشكل دوغمائي على مفهوم “الموازنة بين العمل والحياة” لأن هذا المفهوم خاطئ من الأساس حيث يفترض أن العمل يختلف عن الحياة. العمل يختلف عن الحياة بالنسبة لمن تعني لهم كلمة “العمل” العمل المتثاقل المكروه بينما بالنسبة لأصحاب المشاريع الخاصة فالعمل والحياة مكملان لبعضهما. شخصيا لا أعمل على أي شيء الا وأنا راض حتى لواستغل كل حياتي.
بالطبع من السهل الوصول لهذا المستوى من الحماس عندما تعمل على مشروع مثل Macintosh لأن العمل على شيء جديد دائما مايعطيك الشعور بأنه مشروعك الخاص بسهولة. وهذا أحد الأسباب التي تجعل المبرمجين يميلون لإعادة برمجة أشياء لاتحتاج للبرمجة مجددا ولبرمجة نسخهم الخاصة من منتجات موجودة بالفعل. في بعض الأحيان مثل هذه التصرفات تجعل المديرين حذرين، خصوصا عندما تكون الإنتاجية تقاس بعدد الحروف المكتوبة في البرمجيات. هذه التصرفات من المبرمجين ليست مدفوعة دائما بالغرور أو الغباء لأن برمجة شيء من الصفر دائما مايكون ذا عائد أكبر على المبرمج وحتى أكبر من تقدمه في عمله لو لم يعد البرمجة. قد يكون من مزايا الرأس مالية أنها تشجع على إعادة الكتابة لأن الشركة التي تحتاج لبرمجية معينة خاصة تستخدمها شركة أخرى ستحتاج لبرمجتها من جديد لاستخدامها وغالبا ماتكون النتيجة أفضل.
التجانس الطبيعي بين العمل على المشاريع الخاصة وحل المشكلات هو أحد الأسباب التي تجعل العوائد من الشركات الناشئة مرتفعة جدا. ليس فقط لأن العائد من حل المشكلات مرتفع بل لأن تكلفة العمل عليها بالنسبة لك تعتبر منخفضة. في الواقع عندما تعمل على مشروع جديد من الصفر فان انتاجيتك تتضاعف حيث يمكنك حينها أن توظف من يحبون العمل على مشاريعهم الخاصة ولن يمانعوا أن يصرفوا جل وقتهم على بناء المشروع.
عرف Steve Jobs عن حب هذا النوع من العاملين للعمل بمراقبته ل Steve Wozniak. إن وجدت الأشخاص المناسبين للمشروع فليس عليك سوى أن تخبرهم عن مايجب فعله بشكل سطحي جدا وهم سيتولون التفاصيل. لكن ليمكنهم العمل سيحرصون وسيصرون على أن تكون لهم الاستقلالية وأن لاتبطئهم بأوامرك أو بيروقراطية الشركة.
أحد الطرق لضمان الاستقلالية هو أن لايكون لك مدير، وهناك طريقان لفعل ذلك. الأول أن تكون أنت المدير والثاني أن تعمل على مشاريع خاصة بك خارج نطاق عملك اليومي الرسمي. الشركات الناشئة ومشاريع المصدر المفتوح متضادان عندما نتحدث في الأمور المالية ولكنهما يشتركان أيضا في الكثير من الصفات الأخرى، ومنها أنهما دائما يكونان مداران من أشخاص يحبون العمل على مشاريعهم الخاصة. بالطبع هناك دائما طريق بينهما ذلك أن أفضل الطرق لاكتشاف أفكار الشركات الناشئة يكون العمل على مشاريع لأجل المتعة فقط.
ان كانت مشاريعك ربحية فيمكنك بسهولة العمل عليها، ولكن الأمر أصعب ان لم تكن مربحة. الجزء الأصعب هنا غالبا مايكون هو الروح المعنوية، وهو الجزء الذي يجده الكبار تحديا أكبر من الصغار، لأن الصغار ينغمسون في العمل مباشرة بدون أن يقلقوا أنفسهم بالتفكير في ان كان هذا المشروع سيضيع وقتهم مقارنة بالمشاريع الأخرى. أعتقد أننا يمكن أن نتعلم الكثير من الصغار حول هذه النقطة، لأن معايير الكبار المرتفعة لتعريف العمل “الحقيقي” ليست في صالحنا دائما.
أهم مرحلة في مشروعك الخاص هي البداية، ففيها تنتقل من مجرد التفكير في روعة الفكرة إلى تنفيذها. في هذه المرحلة معاييرنا العالية في معنى العمل ليس لها فائدة بل ومضرة. القليل من الأشخاص لديهم مشكلة البدء بمشاريع كثيرة في نفس الوقت، والغالب كما أتوقع هم من يمتنعون عن البدء بأي مشروع خوفا من فشلها على الرغم من أنها ستنجح لوتجرأو وانطلقوا.
اذا لم نستفد ونحن أطفال من معرفة أن مشاريعنا الخاصة هي طريق لمشاريع أكبر في المستقبل، فإننا يمكن أن نستفيد الآن من معرفة أن مشاريعنا الحالية هي امتداد لمشاريع الطفولة. أتذكر تلك الثقة العمياء التي كانت تملؤك وأنت طفل في بداية أي مشروع؟ ستكون قوة ساحقة لو استطعت استعادتها الآن.
ان كان صعبا علينا ونحن كبار أن نحتفظ بهذه الثقة، فعلينا على الأقل أن نكون واعين بما نعمل عليه. الأطفال يتنقلون بين المشاريع وبين أنواع العمل بدون ادراك لما يحدث لهم. بينما نحن الكبار ندرك الأنواع المختلفة من العمل ونملك القدرة على الاختيار بينها. الحل الأمثل هو أن نجمع بين العالمين، أن نختار بشكل واعي أن نعمل على مشاريع خاصة بنا، وأن نبدأ مشاريع جديدة ونحن ممتلئين بالثقة.