عندما قرأت سيرة الرياضي، ورجل الأعمال، والفنان، والسياسي أرنولد شوارزنيجر قبل سنوات عديدة رسخ في ذهني قاعدة وضعها في نهاية الكتاب يدعو فيها كل إنسان لتحمل مسؤولية نفسه بغض النظر عن الظروف التي مر بها أو يعيشها.
يقول أرنولد في الفصل الثلاثين من سيرته الذاتية Total Recall، القاعدة السابعة:
لاتلم والديك. لقد فعلا أفضل مالديهم، وإن كانا قد تركا لك مشاكل، فهذه المشاكل هي مسؤوليتك الآن لتحلها.
وضع أرنولد هذه القاعدة بعدما عانى كثيرا في حياته، فقد ولد في قرية نمساوية نائية، يخيم على رجالها ظلال الهزيمة في الحرب العالمية الثانية، كان والده أحد جنود النازية السابقين ويعاقر الخمر ويضربه باستمرار. لكنه بفضل هذه العقلية المسؤولة التي طورها استطاع تحقيق العديد من الإنجازات في مجالات متعددة، فعلى الرغم من أنه ابتدأ حياته رياضيا محققا العديد من الإنجازات الشخصية في رياضة كمال الأجسام، فقد طور رياضة كمال الأجسام فنيا وتجاريا، ثم أصبح من أعلى ممثلي هوليود شهرة ودخلا، وتابع نجاحاته حتى أصبح سياسيا فذا وانتخب حاكما لولاية كاليفورنيا.
بقي معرفة سر هذه العقلية وتنميتها في شخصية الإنسان يدور في ذهني خلال السنوات الماضية، فكيف يمكن للإنسان أن يعيش حرا من ماضيه وأن ينطلق في الحياة معتمدا على المستقبل، متطلعا له ومتحملا مسؤولية تحقيقه؟
بدأت طلائع الإجابة تتضح لي عندما تعرفت على فلسفة الطبيب وعالم النفس النمساوي ألفريد أدلر والتي أكاد أجزم أنها شكلت بشكل أو بآخر عقلية شوارزنيجر، حيث وجدت العديد من مبادئ فلسفة أدلر تنعكس في تصرفات وحياة شوارزنيجز التي سردها في سيرته.
من هو ألفريد أدلر؟
ألفرد أدلر هو طبيب وعالم نفس نمساوي عاش بين عامي ١٨٧٠ و١٩٣٧ وكان في بدايات القرن العشرين جزءاً من حلقة فيينا التي ضمت رواداً آخرين في علم النفس هم فرويد، ويونغ. اختلفت أفكار أدلر عن فرويد ويونغ ما دفعه لأن ينفصل ويضع نظريته الخاصة التي أسماها علم النفس الفردي.
عبر السنوات اشتهرت نظريات فرويد حتى طغت على غيرها وأصبحت هي السائدة في علم النفس، أما نظريات أدلر فقد خبت وهو أمر توقعه أدلر حيث قال:
سيأتي يوم لن يتذكر فيه أحد اسمي، يوم سيُنسى فيه حتى أن هذه المدرسة وجدت على الإطلاق.
وهو أمر إيجابي بنظره حيث يعتقد أن هذا النسيان هو بسبب كون أن أفكاره ستكون قد كبرت وتجاوزت حدود النظرية العلمية لتصبح حقيقة وشعورا يعيشه الجميع.
ماهي فلسفة علم النفس الفردي (Individual psychology)؟
إن كنت قد قرأت سابقا في علم النفس أو درست مقدمة له في الجامعة كحالي فغالبا مرت بك نظريات فرويد في التحليل النفسي، وهي نظريات تقسم النفس إلى أجزاء (الهو، والأنا، والأنا العليا) وتفسر شخصية الإنسان وسلوكياته بدوافع داخلية غرائزية مثل الجنس، وبالاضافة لهذا فهي تفترض أن الإنسان لايمكن له أن يغير شخصيته وأن سلوكياته مدفوعة بما مر به في ماضيه وطفولته.
أما أدلر فعلى النقيض من فرويد عمل على أن تكون فلسفته شاملة للنفس ككيان كامل لا يتجزأ، وهي تركز على الأهداف والغايات التي يسعى لها الانسان عبر سلوكياته، فهي فلسفة تركز على حاضر الانسان ومستقبله بدلاً عن أن تبحث في تاريخه وماضيه. فأدلر يرى أن الإنسان إذا استطاع أن يحدد أهدافه المستقبلية فبإمكانه أن يحدد مسار حياته ويتحكم به بشرط أن يتخلص من عبء ماضيه، وهذا لا يعني أن ماضي الإنسان يفتقد للتأثير في حاضره، بل قد يساعده ماضيه في إيجاد فرص مختلفة للتعلم والنمو، والاختلاف هنا في القدرة على اختيار المسار والتحكم به.
هذا التركيز على الحاضر يعطي الإنسان القدرة على أن يكون سيد نفسه في تلك اللحظة، وهو يختلف تمام عن نظرة فرويد ونظريته حول الصدمة النفسية وتأثيرها على مستقبل الإنسان. فنظرية فرويد تقضي بأن الإنسان هو نتاج ماضيه وأن الصدمات التي عاشها في طفولته مثلا ستأثر عليه في شبابه وشيخوخته وهذه الحتمية تضع الإنسان في مأزق عدم قدرته على التغيير والتحسن على الإطلاق إن هو آمن بها.
أرنولد وفلسفة أدلر
فلسفة أدلر الشاملة تحتوي على العديد من المبادئ والمفاهيم التي تفسر شخصية الإنسان وتصرفاته، لكن هناك مفهوما وجدته الأكثر إثارة للاهتمام ويتوافق مع مسيرة شوارزنيجر ونجاحاته، مع وجود العديد من المفاهيم الأدلرية الأخرى التي يمكن إيجادها بسهولة في مسيرة حياة شوارزنيجر.
المفهوم الذي أثار اهتمامي هنا هو مفهوم الأهداف المستقبلية (Goal Orientation)، وفيه يفسر أدلر نزعة الإنسان الصحيح عقليا للتغلب على قصوره بتحديد أهداف مستقبلية ويعمل جاهدا على تحقيقها ليكون متفوقا، وهذه النزعة قد يستخدمها الإنسان المعتل لتحديد أهداف، ولكن لايعمل على تحقيقها لتبقى أملا مستقبليا ولايقطع هذا الأمل بالمحاولة التي قد تفشل وتكسره.
هذه النزعة نحو التفكير في الحاضر فقط وتحديد أهداف المستقبل من أجل تحقيقها نجدها تتكرر في حياة أرنولد بلا توقف، ونجدها أول الأمر في قصته وقراره بالهجرة للولايات المتحدة وهو مازال مراهقا حيث يذكر في سيرته ذلك حرفياً فيقول: “بشكل ما تشكل في ذهني أن أمريكا هي المكان الذي أنتمي له. لا شيء آخر أكثر دقة من هذا” وعلى الرغم من صغر سنه وسيطرة والده إلا أنه اتخذ القرار ووضع الأمر هدفاً للتحقيق وفعلها.
في الولايات المتحدة تكررت هذه النزعة معه باستمرار، فهو المهاجر البسيط الذي لا يجيد اللغة الإنجليزية ويتحدث بلكنة قوية حتى اليوم، لكن هذا لم يمنعه من وضع الأهداف العظيمة الواحدة تلو الأخرى فمرة يقرر التمثيل حتى أصبح فناناً يشار له بالبنان، وتارة يقرر أن يصبح سياسيا فلا يتوقف حتى يحكم كاليفورنيا، وربما كان سيترشح لرئاسة الولايات المتحدة لولا أن القانون يمنعه لأنه ولد خارجها.
كيف تتعرف على نظرية أدلر؟
بدأت علاقتي وتعرفي على هذه النظرية باكتشافي مصادفة لكتاب The Courage to Be Disliked في بداية هذا العام وهو كتاب صغير نوعا ما وكتب بطريقة الحوار بين فيلسوف وشاب في مقتبل حياته يشرح خلالها الفيلسوف ويناقش نظريات وتعاليم أدلر بطريقة سهلة وبتطبيقات عملية على حياة اليوم.
في بداية الكتاب يوضح الفيلسوف نقطة جوهرية يعيشها الكثيرون اليوم وهي انغماسنا في تفسيرات فرويد لحياتنا، فنحن نؤمن بأن الماضي يحدد شكل الحاضر، وأن طريقة تربيتك طفلاً تؤثر على تصرفاتك وأنت بالغ، وأن صدمات الماضي وأحداثه تؤثر عليك اليوم وتتحكم بمستقبلك، والأسوأ من هذا الاعتقاد أننا نؤمن أنها حتمية علينا ولا يمكن لنا الانعتاق منها أو أن نغير أي من هذه الأمور فحياتنا اليوم قررت في الماضي وانتهت.
هنا يبدأ أدلر بنقض كل هذا وإعطاء الفرد القدرة على التحكم بحاضره ومستقبله، ويبدأ بتقديم الأدوات المناسبة لقيادة التغيير الشخصي، وأحد أهم هذه الأدوات هي الأهداف المستقبلية التي تحددها بنفسك تجاه عيوبك ومايشعرك بالنقص، لتبدأ بعد ذلك العمل على تحقيق مايرفع عنك هذا النقص.
نظرية أدلر أوسع وأكثر عمقا وفيها العديد من المفاهيم المهمة جدا والثورية برأيي للنمو الشخصي فبالإضافة لرفض الصدمة النفسية، والأهداف المستقبلية التي تحدثنا عنها، أعتقد أن مفهومي فصل المهام (Separation of Tasks) والعلاقات الأفقية (Horizontal Relationships) هي مفاهيم هامة جدا لأي شخص يسعى لأن يكون سعيدا.
هذا الكتاب غير من نظرتي للحياة بلاشك، وإن كانت قضية السعادة في الحياة تشغل حيزاً من تفكيرك فقراءتك له ستغيرك!