لماذا يتطلع الناس للحرب العالمية الثالثة؟

يمكن أن تتعدد عناوين هذا المقال، فبالإضافة إلى العنوان أعلاه يمكن استخدام عنوان آخر مختلف، مثلاً: “لماذا يبحث الناس عن الحرب؟” أو “لماذا لا يخشى الناس الحرب؟” وغيرها. في كل مرة ومع أدنى احتكاك سياسي في المنطقة تلاحظ التطلع في الشبكات الاجتماعية نحو الحلول العسكرية، وقد تستغرب لماذا يتطلع شخص عادي إلى حرب كبرى في منطقته؟ ولماذا يصبو مواطن آمن إلى مثل هذا الحل المرعب وهو يرى آثار الحروب المدمرة وما تفعله بدول سواء كانت قريبة منه أم بعيدة، والجواب عن كل هذه الأسئلة نجده في إحدى نظريات علم النفس! لكن لنذهب أولا عبر التاريخ إلى القرن الماضي وعبر الجغرافيا إلى لندن.

في السنوات القليلة التي سبقت الحرب العالمية الثانية كان قادة بريطانيا على أعصابهم وفي قمة القلق، ولم لا يقلقون وعاصمتهم لندن لا تستطيع الدفاع عن نفسها أمام الألمان؟! فبحسب القادة العسكريين إن قرر الألمان قصف لندن فلن يمكن إيقافهم أبدا، وكانت التحليلات تدور حول ماذا سيحدث بعد القصف وماذا يمكن أن تفعل الحكومة لتخفيف الآثار على الناس والاقتصاد. كانت التقارير العسكرية تتوقع إن حدث القصف أن يتسبب في موجة هلع بين السكان تؤدي لتوقف الحياة فالناس لن تذهب لأعمالها وستتوقف الصناعة، أما الجيش فسيكون مشغولا عن الألمان بفرض النظام على الأرض بين المواطنين الهلعين، واستعدادا لذلك بنت الحكومة البريطانية عدة مراكز نفسية لاستقبال ضحايا الصدمة على أطراف لندن بالإضافة لمجموعة أخرى من الاستعدادات والتحرزات لآثار القصف.

بعد اندلاع فتيل الحرب وفي خضمها حدث ما كان متوقعا وهجم الألمان على لندن في خريف عام ١٩٤٠، وبدأت أسراب الطائرات الألمانية تقصف لندن لثمانية أشهر من ذلك العام وكانت البداية بسبع وخمسين ليلة من القصف المتواصل على العاصمة مدمرا ومحرقا في كل ليلة آلاف المباني، مخلفا في كل ليلة آلاف القتلى والجرحى، وبالطبع كانت الهجمات وآثارها مثل ما كان متوقعا ماديا ولكن عكس ما كان متوقعا نفسيا!

بعد كل هذا القصف والدمار والقتلى لم يهلع أهل لندن ولم تتوقف الحياة والمراكز النفسية التي بنيت لاستقبال ضحايا الهلع والصدمات حولت لمستشفيات للجيش، ولم يخرج من لندن نحو الريف سوى أعداد من النساء والأطفال في بداية القصف، أما معظم الناس فبقوا وواجهوا ما يحدث بشجاعة كما اعتقد بعضهم أو بعدم اكتراث كما اعتقد البعض الآخر.

ما الذي حدث في لندن، هل كان اللندنيون شجعانا ولم يعرف عنهم أحد هذه الخصلة قبل الحرب؟ أم أن صفة برود المشاعر المعروفة عن الإنجليز أنقذتهم وكانت ذات فائدة في حال كهذه؟

بقي أمر الإنجليز في مواجهة قصف الألمان غامضا حتى عام ١٩٤٣ عندما نشر عالم النفس الأمريكي John T.   MacCurdy  كتابا تحت عنوان: The Structure of Morale بما يمكن ترجمته “بنية الروح المعنوية”، وفي الكتاب أتى هذا العالم بتفسير جديد يحلل كيف يتأثر الناس بالقصف، وقيه قسَّم الأفراد المتأثرين من جراء القصف إلى ثلاثة شخصيات:

  1. الضحايا (Direct hits): وهم الذين يتسبب القصف بموتهم.
  2. الناجون (Near misses): وهم الذين يكونون قريبين جدا من القصف يسمعون صوته، ويرون أمامهم آثار الدمار وكثرة الضحايا، وقد يصابون من جراء ذلك إصابات بليغة أوطفيفة، لكنهم في النهاية ينجون ويبقون على قيد الحياة.
  3. المتفرجون (Remote misses): وهم الذين يرون القصف من بعيد ولا يطالهم، فمثلًا قد يرون الطائرات وهي تمر من فوقهم وتقصف أحياء أخرى، ويسمعون صافرات الإنذار، وقد يرون أعمدة الحرائق تتصاعد من بعيد.

لكل من هذه الشخصيات بحسب نظرية مكردي ردة فعل مختلفة عن الأخرى جراء القصف؛ فالضحايا يموتون ولا يؤثرون، أما الناجون فالحرب تمثل لهم صدمة تبقى معهم ورعبًا وهلعًا يلازمهم مدى الحياة، وكل بادرة نشوب حرب أو قصف بسيط مهما صغرت ستثير فيهم كل مكامن الخوف والهلع، وأخيرا نبقى مع المتفرجين وهم الأغرب والأكثر إثارة للاهتمام والدهشة؛ فبعد رؤيتهم القصف وآثاره عن بعد تسري فيهم روح الحماسة، والشعور بالثقة والقوة والمنعة على النقيض من الناجين الذين أصيبوا بالصدمة، بل وجد من خلال التجربة أنه كلما عاصر المتفرج قصفاً تلو الآخر زاد ذلك من حماسته وترقبه للقصف التالي!

إذا هل صمد الإنجليز بفضل شجاعتهم، أو صفة البرود وعدم الاكتراث التي تلازمهم؟ بحسب مكردي فالإجابة لا. عند قصف منطقة ضخمة مثل لندن يسكنها الملايين تتوزع الأدوار على السكان؛ نعم كان القصف الألماني شديدا وقتل أربعين ألف (ضحايا) وأصاب ستة وأربعين ألفا آخرين (ناجون) ولكن هؤلاء لا يشكلون نسبة تذكر أمام ثمانية ملايين إنسان يسكنون لندن ذلك الوقت (المتفرجون) ورأوا كل شيء وشعروا بعد كل ليلة قصف لا تصيبهم بأي ضرر بمزيد من الثقة والحصانة والمنعة!

لننتقل عبر الزمن مرة أخرى للعام ٢٠٢٠ في الشرق الأوسط وبعد عملية عسكرية هامشية في منطقتنا بين قوى دولية نجد حديث الناس لعدة أيام في الشبكات الاجتماعية هو الحرب العالمية الثالثة! فمالذي يفسر هذا النوع من الميل الاجتماعي نحو الحرب وتمنيها أو الاستهتار بها على الشبكات الاجتماعية؟ يمكن الإجابة عن ذلك بتطبيق نظرية مكردي على نطاق أوسع، ونختبر تأثير الحرب على الناس بدلا من تأثير القصف.

لنأخذ المجتمع الخليجي على سبيل المثال، عاش هذا المجتمع خلال الثلاثين سنة الماضية مجموعة من الحروب أو كان قريبا منها كثيرا؛ بدءًا من غزو الكويت، ومن ثمَّ حرب العراق، وأحداث البحرين، وانتهاء بحرب اليمن. خلال هذه الأحداث لعبت المجتمعات الخليجية أدوارا مختلفة يمكن تقسيمها كالتالي:

  1. الضحايا: المجتمع الكويتي الذي كان ضحية للغزو بشكل مباشر ويمثله هنا بأرقام اليوم مايقارب ١.٣ مليون مواطن.
  2. الناجون: المجتمع البحريني الذي كانت أحداث البحرين في العقد الماضي قريبة جدا منه وكادت أن تودي به ويمثله قرابة ٦٣٠ ألف مواطن.
  3. المتفرجون: بقية مجتمعات الخليج التي رأت الجيوش تتحرك وشاهدت على الهواء كل مجريات الحروب في الجوار، ولكن لم يتغير أي شيء حياة المواطن العادي، ويمثلها هنا قرابة ٢٤ مليون مواطن.

بعملية حسابية سريعة نجد أن مجتمعي الضحايا والناجين لا يشكلان إلا ٨٪ فقط من المجتمع الخليجي! وبالتالي وعلى الرغم من أن دول الخليج شاركت في حرب تحرير الكويت، و في محاربة الحوثيين في اليمن، إلا أن الآثار الناجمة عن تلك الحروب لم تمس المواطن الخليجي العادي إطلاقا، فكل الأضرار كانت هامشية بالنظر إلى الصورة الكبرى والنتيجة العامة في عين الشخص العادي، وبحسب نظرية مكردي، فإنه في كل مرة تحدث فيها حرب قريبة منك وتشاهد وقائعها ومجريات أحداثها ليل نهار من خلال التغطيات الإخبارية، ولا يكون لها تأثير عليك أو يصيبك منها ضرر مباشر تزيد ثقتك بمنعتك وحصانتك، بل ربما دفعتك بالحماسة إلى رؤية حرب أخرى في مكان آخر لحل هذه المشكلة أو تلك أو حتى لمجرد إيجاد حدث لتحليله أو موضوع تشغل به وقتك في الحديث عنه!

الحرب ليست رحلة بالطبع، ولكن عقل الإنسان وتفسيره للأحداث واعتباراته للوقائع لا يحكمها المنطق بأي حال من الأحوال وسنكون دائما محكومين بهذا العقل البسيط الذي سيبحث دائما عن الحرب مادامت بالجوار ولم تقترب كثيرا منا!


ملاحظة: القصة والنظرية بالاعتماد على كتاب David & Goliath للكاتب Malcolm Gladwell